بهدف إحياء الموروث الشعبي الغنائي لآلة ارتبطت بقناة السويس
|
دائما ما يرتبط تاريخ الفن بتاريخ الإنسان نفسه، حقيقة تاريخية تحولت إلى فكرة يطبقها العديد من أصحاب الفرق المستقلة التي تقدم أنواعا من الفنون غير المتداولة إلى حد كبير، ومنه جاء تأسيس قاعة «الطنبورة» منذ نحو شهرين لتوثق لواحدة من أكثر الآلات الموسيقية المصرية أهمية هي آلة «الطنبورة» التي يرتبط تاريخها بحفر قناة السويس.
تتبع قاعة «الطنبورة» مركز «المصطبة» الذي يهدف إلى إحياء الموروث الشعبي الغنائي، وتأخذ مكانا مميزا في حي عابدين بين ضجيج شوارع وسط المدينة، تشعر فور الدخول إليها أنها رحلت بك في جولة فلكلورية مع ديكورها البسيط الذي يشعرك بجو من الحميمية والألفة وبما تسمعه فيها من أنغام لآلات «السمسمية» و«الرانجو»، والأهم آلة «الطنبورة» التي سميت القاعة تيمنا باسمها، حيث تحتضن القاعة عرضا لفرقة الرانجو يوم الخميس وعرضا آخر لفرقة الطنبورة يوم الجمعة.
عن أهمية «الطنبورة» يتحدث الموسيقي زكريا إبراهيم مدير القاعة ومؤسس مركز المصطبة، لـ «الشرق الأوسط»، قائلا: «أنا من محافظة بورسعيد وقد دخلت عالم الموسيقى من خلال ارتباطي بالموسيقى والأغاني الشعبية الشفهية التي لا تعتمد على نوته موسيقية بل تعتمد على السمع والتعلم الشفهي، وهكذا أتقنت الموسيقى، وأنا حاليا باحث في مجال الموسيقى. كما أنني ألقي المحاضرات في السوربون وأقوم بالتأليف الموسيقي، وبشكل عام أنا مهتم بإحياء الموروث الغنائي الشعبي عن طريق البحث عن شيوخه وإعادة آلات قد قاربت على الاندثار مرة أخرى إلى الساحة الموسيقية المصرية».
أسس زكريا فرقة «الطنبورة» عام 1989 بهدف جمع وحفظ تراث بورسعيد الموسيقي والغنائي. تعزف الفرقة على العديد من الآلات الموسيقية منها السمسمية والطبلة والرق والمثلث والصاجات والشخاليل، في تلقائية تحافظ على الروح الأصيلة للتراث المصري والأفريقي. وقد بلغت حصيلة ما سجلت هذه الفرقة نحو 20 ساعة من التراث الشفهي غير المدون على هيئة نوتة موسيقية. ولعل الآلة الأهم في هذه الفرقة هي آلة «الطنبورة» التي تعد واحدة من أقدم الآلات المصرية، وهي تشبه آلة السمسمية إلى حد كبير ولكنها تكبرها بنحو ثلاثة أضعاف في الحجم، وتصنع أسلاكها من الخيط النايلون الذي يستخدم في صناعة سنارات السمك، وما يميز هذه الآلة عن غيرها هو أنها آلة قديمة فلكلورية كانت تستخدم في «الزار» السوداني في مصر وكان يتم تبخيرها أثناء طقوس الزار ويتم التعامل معها بصورة شبه مقدسة وهو ما جعلها حكرا على جمهور معين. ولكن زكريا أراد لهذه الآلة أن تصبح ملكا لكافة المستمعين، فبدأ باستخدامها في عروض الفرقة الفلكلورية وأحدث بها بعض التعديلات حتى تصبح ملائمة لعزف أنواع أخرى من الموسيقى حيث صممها بشكل جديد به مفاتيح خشبية بدلا من قطع القماش التي كانت تستخدم بدلا منها والتي كانت تسمى «حوايا».
قدمت الفرقة عروضها في معظم المحافظات المصرية بداية من القاهرة حتى أسوان ومرورا بمنطقة قناة السويس وسيناء والإسكندرية، ثم بدأت الفرقة في تقديم عروضها خارج مصر في باريس عام 1996 ثم في عمان وجرش وروما وفلورنسا عام 1997، كما شاركت في العديد من المهرجانات، ففي عام 2000 حازت على جائزة «المهرجان الدولي للأغنية والموسيقى» بكندا، وعام 2001 اشتركت في مهرجان «ري أورينت» بالسويد، وفي عام 2002 مرة أخرى في فرنسا في معهد العالم العربي ومهرجان «ربيع الفنانين» في مونبلييه، وفي مهرجان «الشتات» بقرية الموسيقى في لندن، وفي مهرجان «باماكو للفنون الشعبية» بمالي، وبمهرجان لوسيرن بمدينة لوسيرن السويسرية ومهرجان بيروت لفرق الشوارع في لبنان عام 2003، كما شاركت في مهرجان «Mundial festival» الذي جري في يونيو (حزيران) 2006 في هولندا كما قدمت عرضا حيا في مهرجان «WOMEX 2006» في إسبانيا في أكتوبر (تشرين الأول) 2006، كما قامت في فبراير (شباط) 2007 بأول جولة لها في بريطانيا لتقديم العديد من العروض في معظم المدن الإنجليزية، وجولة أخرى في يوليو (تموز) من العام نفسه في كل من ألمانيا والنرويج وبريطانيا تضمنت المشاركة في مهرجان «WOMAD» أكبر مهرجان موسيقي في أوروبا، كما ظهر أول البوم للفرقة في أوروبا عام 1999 بعنوان «سمسمية بورسعيد» من إنتاج معهد العالم العربي، إلى جانب ألبومين آخرين هما «أصحاب السما والبحر» عام 2006 و«رقصة البمبوطي» عام 2009.
أما عن الفرقة الثانية التي تقدم العروض بقاعة الطنبورة فهي فرقة «الرانجو» التي سميت أيضا باسم أهم آلة فيها وهي آلة «الرانجو» التي تعود إلى جنوب السودان وتعد نوعا من أنواع آلة الماريمبا ولكنها أكثر بدائية حيث تصنع يدويا من الخشب الموجود في الطبيعة، وقد بدأت الرانجو في الدخول إلى مصر في عام 1820 عندما فتح محمد علي السودان حيث تم ضم أعداد كبيرة من السودانيين للعمل بالجيش المصري. ومع ازدهار زراعة وتجارة القطن المصري في منتصف القرن التاسع عشر أتت أفواج أخرى للعمل في مزارع القطن، وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت قد تجمعت في مصر أعداد كبيرة من ذوي البشرة السوداء الذين سعوا للتجمع في أحياء سكنية مشتركة مثل «عرايشية العبيد» في الإسماعيلية و«كرموز» في الإسكندرية و«الإمام الشافعي» في القاهرة حيث مارسوا في هذه الأحياء فنونهم المختلطة.
في بداية 1996 توصل الباحث زكريا إبراهيم إلى آخر عازف على قيد الحياة لآلة الرانجو هو حسن برجمون، الذي كان قد ترك الرانجو الذي مارسه في الصغر وبداية عمر الشباب ثم تفرغ لعزف الطنبورة في الزار ولم يكن يحتفظ لديه بأية آلة رانجو، فقاما معا بالبحث عن الآلات لدى أرامل وورثة المعلمين الكبار، وبالفعل تم تجميع 3 آلات رانجو مما سمح بإحياء هذا الفن مرة أخرى والذي يعتمد على الرقص أساسا، للمشاركة في أفراح «اللون» في القاهرة والإسماعيلية والإسكندرية، كما تم تكوين فرقة من فناني الرانجو تقدم موسيقى الرانجو والرقصات والأغاني المصاحبة لها وكذلك عزف وغناء من الزار السوداني والمصري.
وقدمت الفرقة عروضها الناجحة في بعض المراكز الثقافية مثل بيت الهراوي، ومعرض الكتاب، ومركز الهناجر، ومهرجان الموسيقى ببورسعيد، ومسرح روابط، ومكتبة الإسكندرية، والمركز الثقافي الفرنسي بالإسكندرية والقاهرة، وفرنسا والمغرب وقامت بجولة في بريطانيا في عام 2009، واشتركت في أبريل (نيسان) الماضي في مهرجان WAMAD في أبوظبي وتستعد لعمل جولتها الثانية في يوليو القادم ثم مهرجان WAY OUT بالسويد.
ويعد افتتاح قاعة الطنبورة واحدا من الأنشطة المتنوعة التي يقدمها مركز المصطبة وهو مركز أنشأه زكريا إبراهيم عام 2000 بهدف إحياء الموروث الشعبي الغنائي، حيث أنشأ منذ سبع سنوات مدرستين في السويس وبورسعيد لتعليم أصول الغناء الشعبي، كما أسس 11 فرقة مختلفة توثق الفلكلور الشعبي لمختلف محافظات مصر، إذ تعد فرقة الحنة في محافظة السويس وفرقة الجركن البدوية في شمال سيناء أشهرها، بالإضافة لفرقتي الطنبورة والرانجو.
ويرى زكريا أن عروض فرقتي الطنبورة والرانجو بالقاعة الجديدة ما هي إلا خطوة مبدئية حتى يتم دمج باقي الإحدى عشر فرقة، ويضيف: «لا استطيع أن أغامر وأبدأ العروض كلها حتى أتأكد من أن الجمهور قد ارتبط بالمكان وتعرف على أنشطته، وقد وقع اختياري على فرقتي الطنبورة والرانجو للبدء بهما لأنهما الأكثر شهرة عالميا ومحليا، فالهدف الرئيسي لإنشاء القاعة هو التسويق لعروض الفرق المشتركة مع مركز المصطبة، فأنا أحاول الحفاظ على موسيقانا الشعبية المصرية باعتبارها جزءا من هويتنا وشخصيتنا وهذا في ظل العولمة التي كما أن لها آثارا إيجابية على الموسيقى فإن لها آثارا سلبية تتمثل في تمسك الشباب بتعلم الآلات الغربية والاستماع إليها وهجر الآلات المحلية التي أوشكت على الاندثار».