شيده الملك فاروق كاستراحة شتوية على بحيرة قارون
|
القاهرة: رانيا سعد الدين- الشرق الأوسط
في عام 1937 من ثلاثينيات القرن الماضي فكر الملك فاروق ملك مصر في تشييد استراحة شتوية ينعم فيها بالراحة والاستجمام وممارسة هواية صيد السمك التي كان يعشقها، بعيدا عن بلاط الحكم ودهاليزه. وبعد إطلالة على خريطة البلاد، استقر خياله على موقع متميز بالقرب من هضبة الفيوم، يطل مباشرة على ضفاف بحيرة قارون الشهيرة. عزز هذه الفكرة التاريخ العريق والمتنوع لمدينة الفيوم، والذي يجمع في عباءته كل حقب الحضارة المصرية، من الفرعونية، والقبطية، واليونانية الرومانية والإسلامية، ولم تكد تمر فترة قصيرة حتى تحوّل حلم الملك الشاب إلى حقيقة، وازدان المكان بمبنى أنيق، يتمتع بطراز معماري رائع. وعرفت هذه الاستراحة الملكية باسم «أوبرج الفيوم». يقع الأوبرج على بعد نحو 70 كيلومترا جنوب غربي العاصمة المصرية القاهرة، ونظرا لموقعه الفريد، وجمال وهدوء الطبيعة من حوله، استخدمه الملك أيضا كمكان للضيافة وإقامة الحفلات للنخب المتميزة من أصدقائه وضيوفه من العرب والأجانب. وبعد انتهاء عصر الملك ظل الأوبرج لسنوات عديدة محطة الاستجمام الخاصة لكثير من الشخصيات والرموز السياسية والفنية والنزلاء البارزين وقد شهد الكثير من الاتفاقيات والاجتماعات السياسية الهامة.
وعلى فترات متعاقبة من تاريخه لم يسلم الأوبرج من أعمال تطوير وصيانة وإصلاحات، حافظت على رونقه القديم، وأضافت إليه في الوقت نفسه لمسة جمالية تواكب إيقاع العصر والتطور.. حسام حسن المدير العام لأوبرج الفيوم يروى قصة هذا التطوير، ويقول: بدأت شركة هلنان أعمال التطوير أولا بصيانة الرصيف القديم على بحيرة قارون الذي بناه الملك فاروق، حيث كان يمارس هناك العديد من الأنشطة الرياضية والترفيهية كالصيد وركوب المراكب الشراعية، فالبحيرة هنا تمثل واحدة من أجمل مناطق الصيد في الشرق الأوسط، وهنا من هذه البقعة الريفية الجميلة يستطيع الزوار التوجه إلى شواطئ الرمال الذهبية في وادي الريان أو يستكشفوا وادي الحيتان، الذي كان يوما ما يمثل قاع البحر، وبات اليوم جافا ولم يبق منه سوى الهياكل والأصداف ملقاة على رمال الصحراء.
والأوبرج له موقع استراتيجي، فكأنما هو المحور وتتراص على طريقه العديد من المزارات السياحية الهامة التي لا تبعد عنه سوى كيلومترات، ويضيف حسام أن الفندق كان قبلة لصناع السينما والأفلام، حيث إن كثيرا من الأفلام المصرية القديمة، بخاصة في حقبة سينما الأبيض والأسود تم تصويرها هنا.
ويتابع حسام «بعد أن تسلمت سلسلة فنادق هلنان العالمية إدارة الفندق في عام 2005 قامت بتجديده وتطويره وإعادته إلى سابق عهده ذي النمط الكلاسيكي، مضافا إليه بعض الوسائل الحديثة مثل «حمام السباحة، مركز صحي، مجموعة حدائق، رصيف صيد حديث، ملعب تنس، ملعب اسكواش، مطعم فاخر»، بالإضافة إلى خدمة الغرف أصبحت رمز الضيافة الاسكندنافية حيث وفرنا جودة الخدمة مع الإقامة الفخمة، فوجدنا أن صناع السينما والمسلسلات فتحت شهيتهم من جديد للتصوير بين جدران الأوبرج، ربما لمعايشة عراقة الماضي التي حافظنا عليها، أو لشعورهم أن هنا مزيجا من التاريخ والحداثة ممزوجة ببراعة في قالب واحد، فالأوبرج ما زال يعبق بروائح التاريخ والعروش الملكية الضائعة والألقاب المسحوبة، فأنت داخله تقيم في أسطورة». ويؤكد حسام أنه بعد قيام الثورة قامت قيادة الثورة بتسليم الأوبرج لهيئة الآثار والسياحة التي بدورها قامت بتأجيره لأكثر من مستثمر، ولم يحدث في أثناء ذلك أي تجديدات في البنية الأساسية، وعندما تسلمت هلنان المكان كان على حالة سيئة، ولكن عبق التاريخ جعلنا ننفق نحو 25 مليون جنيه على الترميمات والصيانة، وفرش الغرف ليعود الأوبرج إلى هيئته الملكية المعهودة عنه.
تبلغ سعة الفندق 50 غرفة من بينها 3 أجنحة أشهرها، الجناح الملكي الذي كان يقيم به الملك فاروق عند إقامته الشتوية في الفندق، وقد عمل مصمم الديكور عند تجديده على أن يعطيه لمسة جمالية تضيف لما فيه من فخامة، فقد حكى قصة الملك فاروق بالصور التي تناثرت بنظام على حوائط غرفة الاستقبال السفلى، فنجد صورته وهو طفل ثم تقلده العرش وحفل زواجه، بالإضافة إلى إطارين أنيقين يحمل كل واحد منهما صور زوجاته ناريمان وفريدة على الرغم من أن هذه الغرفة لم تقم معه فيها سوى ناريمان والتي أمرت أن يكون السرير في الأوبرج مشابهاً للموجود في القاهرة، بالإضافة إلى التاج الملكي الذي يعلو السرير وتتدلى منه ناموسية ناعمة بخفة ودلال، وهناك باب خارجي للغرفة يطل على حديقة خاصة به، وعلى ممر يؤدى إلى رصيف الصيد الخاص بالملك فاروق والذي كان يقضى عنده الساعات الطوال، فالملك كان عاشق لرياضة الصيد بكل أنواعه، والفيوم ذات صيت عالمي كموقع متميز لصيد أجود أنواع الأسماك من البحيرة، وأيضا البط والسمان المهاجر، ولكن بسبب انتشار الإنفلونزا أصبح هناك بعض التحذيرات بهذا الأمر.
ويربط غرفة الاستقبال والنوم سلم من خشب الأرو، يمنحك مع كل خطوة فوقه شعورا بالفخامة الملكية، خاصة عندما تلمح على جانب السلم العديد من صور الأسرة المالكة قبل فاروق.. ويستطرد حسام قائلا «إن إدارة الفندق تقدم لأي زائر فرصة الاستمتاع بالجو الملكي، والمبيت بين جدران هذه الغرفة التي عبقت بالفخامة، فقد جعلتها متاحة للإيجار لأي فرد كي يعيش بعض الوقت بين حوائط التاريخ».
ويضيف حسام أن التاريخ هنا رسم ملامح كثير من الأماكن، ففي مدخل الأوبرج أول ما ستقع عليه عيناك لافتة كتب عليها «قاعة تشرشل» بأثاثها الراقي وأجمل ما فيها مدفأتها الشهيرة التي التقى حولها كل من الملك عبد العزيز آل سعود رحمة الله، ورئيس الوزراء وينستون تشرشل للتباحث حول الأوضاع في الوطن العربي، وستلمح صورة الملك عبد العزيز تتوسط القاعة بفخامة معهودة كشاهد تاريخي على الحدث.
ومن التاريخ إلى أجواء الرومانسية الحالمة ستجد نفسك أسيرا لجلسة حالمة حول بحيرة قارون وقت الغروب لتنعم بنسمة باردة صيفا ودافئة شتاء، وسوف تسمع في الهواء تردد أعذب الأنغام بلا أوركسترا ولا عوّاد فهي منبعثة من فتحات «الساوند سيستم» التي تناثرت في كل الأرجاء والزوايا، حتى ينعم الزوار بها وعندما تضيء مصابيح المسبح ليلا سيكون بمثابة ظلال الشموع في إحدى جزر الهاواي.
ويلتقط الخيط المهندس سيد إبراهيم أحد المشرفين على تجديد وترميم الفندق، مشيرا إلى أنه تم إنفاق مبالغ هائلة على تجديد المكان، ليس فقط من أجل تجميله ولكن للبقاء على شكله الأساسي، فمن زار الأوبرج قبل التجديد ويزوره اليوم يشعر أن المكان يحافظ على خصوصيته التي بني من أجلها وهذه كانت مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقنا لأن تجديد التاريخ ليس بالسهل فلا يمكن هدم حائط ليحل آخر مكانه، فكل حجر هنا له حكاية يجب أن يبقى ما بقي الزمان لكي يقصها لكل الأجيال. يضيف إبراهيم أنه مع انتهاء العام سوف نزود الفندق برصيف على البحيرة، ونسعى لأن يقام عليه مطعم كبير للأسماك، كما أننا سنقوم بزيادة عدد الغرف إلى 50 أخرى، وكل هذا سوف يكون مطابقا للمبنى الأصلي ومكملا له حتى تتناسق جميع مفردات المكان.
ويوضح إبراهيم: لقد حرصنا على أن تكون أعمال الديكور الداخلية على النظام الروستيك، حتى يشعر الزائر بأنه بين جدران قصر ملكي، وليس فندقا، فالمكان كله مكسو بالرخام الأخضر الفخم، ومزين بأشكال وألوان تتماشى مع اللون الأساسي، وفرشت الممرات بالسجاد الأحمر الأنيق ذي النقوش الذهبية الناعمة، وعلى الجدران تناثر العديد من اللوحات الزيتية التي يشعر كل من تقع عينه عليها بأنها قطعة أثرية، وفى بهو استقبال الأوبرج ستجد مجموعة من الكراسي القطيفة المضلعة وكأنها تنتظر زائرا مهما أعدت خصيصا له.
ولكي تكتمل الخدمة الملكية الفندقية بالمكان يقول مدير المشروبات والأغذية عادل فوزي «نحن نُعتبر أول فندق في منطقة ريفية يحصل على 5 نجوم سياحية، مما ألقى على عاتقنا مهمة كبيرة وهي تقديم الطعام للزائر على هذا النحو، فمطبخ الأوبرج يتمتع بجو متنوع من الأطباق ما بين شرقي وغربي ويوناني أيضا، ولكن أكثر ما يميز المكان هو تقديمه قائمة متنوعة من أطباق البط والحمام بطرق طهو مميزة وهذا ليس كل شيء، فالفيوم تمتاز أيضا بأسماكها المتنوعة ونحن نقدمها بطرق متعددة خاصة السمك على الطريقة الفيومية. ولا يمنع هذا أن يفاجئك الشيف بطبق اليوم مغايرا لما في القائمة حتى يشعر الزائر بأنه في بيته، وقد كان أكبر اختبار لمطبخنا يوم الافتتاح عندما حضر رئيس الوزراء ومجموعة من الوزراء معه، وجميعهم أثنوا على جودة الطعام وجو المطعم الفخم المريح».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق